ذات يوم، قال لي ابني الأكبر: «أنا مش فارق معايا إني أعمل الموضوع دا، أنا هاعمل كدا علشان بس انتي تكوني مبسوطة».
وفي يوم آخر، قلتُ لابني الأصغر، بعد أن أكَّد لي أنه لن يترك ما يفعله: «أنا زعلانة منك»، فتراجع عمَّا يفعل والدموع في عينيه، محاولًا اكتساب رضاي، ضاربًا بعرض الحائط سعادته ورغبته في اللهو.
توقفتُ هنا مستنكرةً ما أفعل!
ابنايَ يجاهدان أنفسهما من أجل أن ينالا رضاي.
يتنازلان عن كونهما أنفسهما فقط ليقولا لي كم أنهما يحبانني!
كيف لي، وأنا أعشقهما، أن أنتهك مشاعرهما بهذه القسوة؟!
كيف تصبح أنانيتي هي سيدة الموقف؟!
كيف تقودني سعادة مشاعر مزيفة وأنا أمهما؟!
إنه ابتزاز عاطفي متكامل الأركان.
جريمة شنعاء لا تقع تحت طائلة القانون.
ابتزاز شرس مغلَّف بغطاء رقيق ذي ألوان زاهية يسمَّى بر الوالدين.
في رحلة أمومتي، اكتشفتُ كثيرًا من الأخطاء التي نرتكبها نحن الآباء والأمهات..
قد نحمل نية الحب دائمًا لأبنائنا، لكننا لن نُحسن صنعًا بشكل مستمر معهم.
قد نفكر في حمايتهم ونحن ندمر داخلهم..
قد نزرع بداخلهم ما لا يطيقون تحمُّله ونحن منبهرون بعشقهم لنا، مؤكدين لأنفسنا أننا نعم الآباء، وأن ما فعله أبناؤنا من طمس لشخصياتهم وانتهاك لحريتهم وخضوع لنا ما هو إلا «نعم التربية».
كوننا آباء فهذا تكليف يجب أن نكون قدرَه، وليس تشريفًا نقف به على أنقاض شخصياتهم وانطفاء أرواحهم.. وكونهم أبناءنا لا يعني امتلاكنا لهم واستحلال نفسيتهم واللهو بمشاعرهم وتحديد مصائرهم.
مثل هذه الأخطاء هي ما يصنع عقوق الأبناء، ويغذِّي قلوبًا من حجر لأشباه أناسٍ مدمرين وغير قادرين على معاشرة البشر، نُخرج بأيدينا قلوبًا قاسية وعقولًا متحجِّرة لا تعرف السلامةُ النفسيةُ لهم طريقًا.
اقتلوا بداخلكم الكِبْرَ في تحقيق رغباتكم فيهم..
لاتعاونوهم على العقوق ثم تبكوا دمًا على أعماركم التي ضاعت عليهم.
أعينوهم على أنفسهم، وعليكم، وعلى الدنيا..
أخبروهم أنكم تحبونهم دون شروط، أكدوا لهم أن حبكم لهم لم يحتَج منهم إلى بذل الجهد.
عانقوهم دون أسباب، ضُمُّوهم إن أخطؤوا، علِّموهم أن الخطأ من الخصائص البشرية وأن خير الخطائين التوابون، أخبروهم أن غاية آمالكم أن تروهم بخير، وأن سعادتهم هي قمة سعادتكم.
الابتزاز العاطفي
هو أحد أشكال التلاعب النفسي، يستخدم فيه المبتزُّ سلسلة متصلة من التهديدات، وأنواعًا مختلفة من العقاب، من أجل السيطرة على سلوك الشخص الذي يرغب في الاستحواذ عليه.
المبتزُّ عاطفيًّا يعلم جيدًا مدى حرص فريسته على ديمومة بقاء العلاقة بينهما.
قد يحدث الابتزاز العاطفي في شتَّى أنواع العلاقات، لكنِّي أخصُّ بالذكر ابتزاز الآباء والأمهات لأبنائهم:
- «لو اتجوزت البنت دي، قلبي وربي غضبانين عليك»..
- «لو مادخلتش الكلية دي تبقى مش بتحبني، وساعتها لا انت ابني ولا أعرفك»..
- «بعد ما ضيَّعت شبابي وعمري عليكم، في الآخر تسيبني وتنزل مع أصحابك؟!».
- «لو غضبت عليك مش هتشوف خير في حياتك».
نُلقي بهم في بئر عميقة مظلمة، ليلتقطهم صراعٌ نفسي مُميت لقلوبهم بين طاعتنا وخروجهم من رحمتنا.
أيُّ حياةٍ تلك التي يحياها الأبناء، ومصدر قوتهم في الحياة يستغلون البرَّ شرطًا لإرضائهم، يعيشون في قهر وخوف وذل، ويفتقدون الثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرارات، ووضع كل شيء في مكانه الصحيح؟!
نصوِّب في وجوههم سلاح عدم الرضا والدعاء عليهم وعدم التوفيق إن لم يخنعوا لنزع حقهم وسعادتهم من داخلهم.
كم من أبناء خضعوا لهذه الأسلحة؟!
كم من ابنٍ سُلب منه طموحه وعاش حياة لم يحلم بها؟!
كم من ابنٍ انتُزعت منه زوجته وعاش بعيدًا عن أبنائه لإرضاء والدته؟!
كم هُدمت أسر وتحطمت آمال وماتت قلوب وخرج لنا أشباه أناس لا يقوون على الحياة؟!
كما أن بر الوالدين حقٌّ، فصون نعمة الأبناء حق، وحبوب الحب هي التي تُنبت ثمار البر.
ممَّا يُذكر في كتب السِّيَر: أن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – غضب على ابنه يزيد ذات مرة، فأرسل إلى الأحنف بن قيس يسأله عن رأيه في البنين، فقال: «هم ثمارُ قلوبنا، وعمادُ ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماءٌ ظليلة، فإن طلبوا فأعطِهم، وإن غضبوا فأرضِهم، فإنهم يمنحونك ودَّهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكُن عليهم ثقيلًا فيملُّوا حياتك، ويتمنوا وفاتك».
يا من برضاكم الجنة، اتقوا الله في أبنائكم ولا تميتوا قلوبهم، رفقًا بهم؛ فهم زينة الحياة الدنيا.
اقرئي أيضاً: حكايتي مع الحب الحقيقي
[…] اقرئي أيضاً: أباء ولكن! […]
[…] اقرئي أيضًا: آباء ولكن! […]