إن الكثير من العلاقات مبنية في الحقيقة على الحب المتبادل، وعلى الأخذ والعطاء.
ولكن كما تعرف أن الشيئ إذا زاد عن حده إنقلب لضده:
بمعنى إنه إذا تجاوز العطاء حدوده، والذي تختلف من علاقة لأخرى، فإن هذا العطاء يتحول لحالة من الإستغلال، ويجعل صاحبه فريسة لغيره يقتنصها وقت ما يريد، وفي الوقت الذي يريد، وعلى الوجه الذي يريد.
لذا فنحن نجعل هذا العطاء الزائد أو ذاك العطاء المعتاد الذي تجاوز حدوده هو السبب الرئيسي الذي تسبب في تشكيل هذا السلوك الهدام، ألا وهو العشم.
يعد العشم بمثابة أمر خطير؛ لأنه يترتب عليه آثار وخيمة، والتي نطلق عليها عواقب العشم.
كيف لا!
وهو عدو متربص، والكثير في غفلة عنه، وليسوا على دراية به.
أتدري لماذا؟
لأنه يجعل العلاقة في البداية في غاية القوة والمتانة.
كيف لا!
وهي قائمة على عطاء بلا حدود من قبل أحد طرفيها، ولا شك أن هذا أمر خادع، لا يدركه إلا من تحلى بنور البصيرة، فهو في الحقيقه فتنة التي يعرفها العلماء بأنها:
” الاختبار والابتلاء”.
ولعل سبب وصف العشم بأنه فتنة؛ هى أن الفتنة هي شيئ مزين وجذاب من الخارج ومن حيث الصورة أو الشكل، إلا أنه في الحقيقة ضار وعواقبه وخيمة، وهذا الأمر ينطبق على العشم بالكلية، كما سبق وذكرنا؛ لأنه يزين العلاقة ويجعلها تظهر في أقوى وأبهج صورها.
إلا أنه سرعان ما تنقضي ويمضي كل من طرفيها لحال سبيله!
ولكن إذا كان العشم في الحقيقة داء، فما خلق الله داء إلا وجعل له دواء أو علاج، وعلاج العشم ينبع من صاحبه، فهو الوحيد المتحكم في مثل هذه الأمور المعنوية، والتي تحتاج إلى إرادة قوية وتجلد وصبر وممارسة تامة حتى يتمكن منه ويتغلب عليه.
وطرق معالجة العشم كثيرة، لا تكاد تخفى على أحد؛ لأن العشم في الحقيقة سلوك مكتسب وليس فطري، يولد به الإنسان، حيث لم خلق الله الإنسان عليه، لذا فهو الأدرى بحلوله.
فكل ما عليه أن يسعى للحفاظ على فطرته بحيث تظل فطرته سوية وطاهرة كما خلقها الله، وأن يعيد ما تبعثر منها إلى ما كان عليه، ولا شك أن هذا أمر يختلف من شخص لآخر بمعنى أن ما يناسبك قد لا يناسب غيرك، فكل أدري بما يتناسب مع طبيعته.
مفهوم العشم
هو مصدر عشم، وهو يعني أمل أو طمع في شخص، وغالبا ما يكون من باب الحب وحسن الظن.
وهو سلوك أو تصرف ما يعبر عن توقع صاحبه لشيئ ما من قبل شخص آخر، من عادته العطاء.
العشم يعني حالة يعاني منها بعض الناس، الذي يغلب عليهم طابع الثقة الزائدة في الآخرين، والتي تدفعهم لتوقع أشياء معينة، لم تكن في الحسبان.
عواقب العشم
وهو سلوك غير إنساني؛ لأنه يوحي بإستغلال صاحبه للطرف الأخر والطمع فيه.
كيف لا!!
فهو يسقط دلالات الذوق وآداب المعاملة، علاوة على أنه يوقع صاحبه في الحرج يوما ما فمهما استمر العطاء فحتما سيقتله العشم؛ لأن العشم لص محترف يجعلك تأخذ من كل إنسان أحسن ما فيه، ثم تتركه وقد استنفذت طاقته، فهو يعمل دائما كمصاصات الدماء.
من عواقب العشم أيضا :-ضعف قوة العلاقات، وربما وصل الأمر إلى خسارتها، فهو عدو كل علاقة سواء بين شخصين أو بين العبد وربه أو بين الإنسان ونفسه، فحرى أن نكون على بصيرة بهذا الأمر كي نحافظ على علاقتنا ونقويها أكثر وأكثر.
العشم يمثل في الحقيقة غشم من قبل صاحبه، فهو لايدري أنه لا يوجد في الواقع شخص مثإلى ومخلص للغاية يستحق العشم كما يظن، فهو شخص مخدوع في غيره خاصة.
وفي الواقع عامة، فنحن نعيش في زمن قل فيه الوفاء والإخلاص وقلما تجد من هو يستحق كل ما عندك من عطاء وحب، حقا إذا أردت أن توظف طاقتك بشكل سليم فوجهها ناحية المولي عزوجل، فحينها ستستقر أمورك، وسيصفو بالك وستشعر بالأمان الذي سرت سنينا تائها وتبحث عنه .
إنه مع الله.
لا أعني ألا تكون لديك علاقات مع البشر!
كلا، بل كون علاقاتك ولكن أجعلها تحت السيطرة، من خلال علاقة أقوى منها، وهي علاقتك مع ربك، فإذا شعرت بتوتر علاقتك مع الآخرين، فالجأ إلىه جل في علاه وسينير لك بصيرتك.
فكما لابد دائما في كل علاقة من طرف أقوى من الآخر يستطيع أن يدير هذا العلاقة، ويكون هو المسئول الأول عنها، فكذا في العلاقات ككل، لابد من علاقة أقوى تحكم باقي العلاقات وتقيمها، وتسمح بإستمرارها على النحو المطلوب.
طرق معالجة العشم
إن أقوى طرق معالجة العشم هو ألا ترفع سقف توقعاتك مع الآخرين، فهذا يجعلك أقل عرضة لخيبات الأمل، التي تأتي من جراء العشم الزائد.
وحتى يتفادى المرء مثل هذا السلوك، فبدلا من أن يقع في فخ العشم، عليه أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، وأن تكون المعاملة بالمثل، وأن ترد التحية بمثلها أو بأحسن منها، فقط لا غير.
من طرق معالجة العشم أيضا :-إليأس مما في أيدي الناس، حيث قال صلى الله علىه وسلم (أزهد فيما في أيدي الناس، يحبك الناس)
من طرق معالجة العشم أيضا :لا تكثر من مجاملة الآخرين، أو من إعطاء الوعود لهم:- فكثره الوعود أو المجاملات يجعلك عرضة لعشم الآخرين فيك، أو فريسة لهم، فتراهم يعاملوك بطريقة تجبرك على التعامل معهم بالطريقة التي يريدونها هم، لابالطريقة المناسبة لهم، أو المطلوبة معهم.
كلا. إن الأمر ليس كذلك.
وكأنما صارت العلاقة وتحولت من علاقة حب حقيقية إلى علاقة حب مشروطة.
أسباب العشم
ولعل من أقوى دوافع العشم تتمثل في الأتي:-
توقع الأسوأ دائما:
فتوقع الأسوأ دائما يدفع صاحبه على عدم إنتظار شيئا ما من الآخرين، فيستمر في العطاء بدون مقابل، فيقع فريسة للطرف الآخر، ويصبح محلا للإستغلال.
ولعل الكثير منا تنزلق قدميه في فخ العشم، لفهمه الخاطئ” للمعاملة الحسنة”، التي هي من أولى متطلبات كل علاقة على أرض الواقع.
حيث قال تعالى “ادفع باللتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”
إن المعاملة الحسنة التي نحن مأمورين بها هي متمثلة في استبدال السيئة بالحسنة، ولكن مع من؟ هذا هو الفارق الوحيد!
إننا فعلا مأمورين بعدم معاملة الآخرين بالمثل، بل مأمورين بمعاملتهم باللتي هي أحسن.
وذلك لن يتحقق إلا إذا قابلنا الإساءة بالإحسان.
ولكن متى؟
إننا مأمورين بذلك في مواطن ومواضع مخصوصة، وهي في حالة إذا كان ذلك الشخص ليس من عادته الإساءة، أو الهجر مثلا، أو الجفاء، او لا تتكرر منه الأذية، أو نفس الشي؛ لأن تكرار الشي من الغير سواء أكان هجر أم أذية أم أي نوع كان من أنواع التقصير، الذي يعتري أي علاقة، دليل على تعمد ذالك الشخص له.
وهناك فرق بين من يفعل الشي متعمدا، وبين من يفعله مخطئا أو على سبييل الخطأ.
فتعمد الشي لا يغفر الإساءة، أما إذا كانت على سبيل الخطأ مرة أو اثنان، فهذا يدفعنا أحيانا بفطرتنا إلى إلتماس العذر له أو من باب أولى مغفرة ذلك الخطأ له.
بديل العشم
بدلا من معاملة البعض أحيانا معاملة ليسوا أهلا لها، ولا هم يستحقونها؛ طمعا في أن يجدوا مثلها تحت مسمى العشم، فمن الأفضل أن يكتفي المرء بمبدأ الحب في الله، الذي يتمثل في معاملة الغير معاملة حسنة، وإن لم تقابل بمثلها، من غير تكلف، ولا محاباة، ومن غير تعمق، ولا مبالغة.
أنواع العشم
العشم في الله
وهو مذموم، حيث قال الله تعالى في كتابه (ما غرك بربك الكريم) حيث هذا يعد إستفهاما يراد به التوبيخ والذم، وهو سبب لسلب محبة الله للعبد، والتخلي عنه سبب لكسب محبة المولي عزوجل حيث قال صلى الله علىه وسلم (ازهد فيما عند الله يحبك الله)
ومما ينبغي التنبيه علىه:- المعني الخاطئ لمفهوم الطمع في الله، الذي هو شائع بين الكثير، وعلى جهل به، فلابد من التنبيه على أن الطمع في الله له ضربان أو شكلان، فتارة يكون محمود، وتارة يكون مذموما.
فالطمع المحمود هو الطمع في رحمة الله ومغفرته، أما الطمع المذموم فهو الطمع في متاع الدنيا الزائل من جاه أو سلطان.
عشم في النفس
وهو ينتج غالبا من عدم فهم النفس فهما صحيحا، وتوقع مالا يحتمل وقوعه منها، مما يترتب علىه إعطاء المرء نفسه حجما فوق حجمها الحقيقي.
ولن يستطيع المرء فهم ذاته إلا إذا تمكن من إحتوائها، فالنفس عدو لصاحبها، إن لم يحسن التعامل معها، لن يفهمها جيدا، مما يترتب على ذلك أنها تسلط على صاحبها، فتفتكه أرضا.
عشم في الآخرين
وقد سبق وتكلمنا عنه.
إقتباسات عن العشم
“لا تجبر احدا على الإهتمام بك والسؤال عنك، فمن يحبك حقا سيبحث عنك، كما لو كان يبحث عن شي ثمين ضاع منه، فالإهتمام صفحة لا يمكن لأحد أن يتصنعها، فلا تحاول أن تجبر أحدا على الإهتمام بك، فتسعى كمن يسقى شجرة صناعيه، وينتظر منها ان تثمر”
“نزار قباني”
الخلاصة
في نهاية مقالي، أريد التنبيه على الأمور الأتية:-
العشم هو حالة يعاني منها الكثير من حيث لا يدروا؛ بسبب:-
- قلة الوعي لديهم.
- الثقة المفرطة أحيانآ في البعض.
- تنازل البعض عن حقوقهم المعتبرة في أي علاقة كانت.
العشم داء مسموم؛ لأنه يقضي على كل علاقة دخل فيها من دبرها، فحرى بنا أن نتلاشاه، ونتحاشا أضراره وعواقبه والخيمة، من خلال الاتي:-
- لاترفع سقف توقعاتك بالآخرين .
- تجنب الكثير من المجاملات والوعود الزائدة.
- كن بعيدا أقصى البعد عن التكلف في كل علاقة أنت فيها، وكن أنت، ولا تزبف نفسك بأمور لا تليق بك.
- تطبيق مفهوم المعاملة الحسنة بشكل سليم، فلا ينبغي أن تقابل السيئة بالحسنة إلا مع من يستحق ذاك، وتذكر دائما أن من يتعمد الإساءة لك أو اعتادها بتكررها منه، لا يستحق تلك المعاملة الحسنة، التي دعانا إلىها الإسلام، والتي تتمثل في مقابلة السيئة بالحسنة.
لا يشترط أن تكون الإساءة محمولةعلى المعنى الحقيقي لها، فهناك إساءة غير ملموسة إلا أنها محسوسة، كالهجر وعدم السؤال عنك أو التجاهل أو نحو ذلك.
ومن هنا نخلص إلى أن من الأفضل أن تكون المعاملة بالمثل حتى نأمن من شطط العلاقات.
وأخيرا أحمد الله الذي وفقني في كتابة مقالتي هذه، سائلة المولي عزوجل أن يجعله نافعا وصالحا لكل من يقرأه، والسلام.
اقرأ أيضاً: الدليل الكامل لبناء أسرة قوية وسعيدة