سبب عطف قضية العقوق على قضية الشرك والعياذ بالله
إن بر الوالدين أمر جلل، حتى إنه جاء مقترنًا بقضية العبودية والتوحيد، التي هي أول قضية تناولها القرآن، لما فيها من تصحيح مسار عقيدة العبد المسلم، ولعل السر وراء هذا الربط هو أن لكل سبب مسبب، فكما أن الوجود له سبب وهو الوالدين، فله مسبب أيضًا وهو الله، لذا فنحن مدينون ببر الوالدين، لأنهم السبب في وجودنا، ومدينون بعبادة الخالق لأنه المسبب.
مراتب بر الوالدين
بر الوالدين له مراتب كثيرة منها:
- الإحسان إلى الوالدين بشتى صوره القول والفعل والعمل والسكوت أمامهما احتراما وتوقيرا.
- القول الطيب؛ ببسط روح الحديث لهما البناء لا الهدام ولا ما يثير الجدل بداخلهما.
- بسط روح الخدمة؛ فهذه هي أقوى صور البر ويشمل أيضا الإنفاق عليهما. (وابسط لهما جناح الذل من الرحمة)
- الدعاء لهما؛ {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
- الاعراض عنهما إخفاءً للهموم؛ إن من صور البر أيضًا البعد عن الوالدين وقت اقتحام الهموم والأحزان وتجنب الشكوى لهما. قال تعالى {وَأَمَّا تَعْرِضَنَّ عَنْهُمَا ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمَا قَوْلًا مَّيْسُورًا}
مراتب العقوق
- التأفف أمامهما؛ (أف) وهي كلمة من حرفين الا أن بها يوقع صاحبها في عقوبتين، العقوق دنيويًا، ارتكاب الكبيرة أخرى.
- النقد الجارح لهما؛ من نهر وزجر وسوء أدب في الحوار.
- الزجر والصياح فيهما؛ بخلاف ما لو كان الأمر يتعلق بدفاع عن النفس أثر ظلم ما، فلا حرج في الجهر بالسوء دفاعًا عن النفس؛ {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}
- الضرب والشتم؛ وهو أقصى مراحله.
- جرح مشاعراتهما؛ بفعل ما يؤذيهما في غيابهما.
عقوبة العقوق دنيوية قبل أخروية
- ومما يدل على ذلك حديث (اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منها عقوق الوالدين) ومعنى الموبقات أي المهلكات.
- الحديث الذي رواه البخاري في التاريخ والطبراني وصححه الألباني مرفوعًا: {اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين}.
عقوق الوالدين من الكبائر
هناك أحاديث تدل على أن عقوق الوالدين من الكبائر، ومنها:
- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من الكبائر شَتْمُ الرجل والديه”. قيل: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: “نعم، يَسُبُّ أبا الرجل فَيَسُبُّ أباه، ويَسُبُّ أمَّه فَيَسُبُّ أمَّهُ” (متفق عليه).
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رِضا اللَّهَ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ” (أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم).
ألفاظ ومفاهيم عن البر
هناك ألفاظ ومفاهيم مختلفة عن بر الوالدين
- النقد: هو محور التغيير والإصلاح، وهناك نوعان من النقد، البناء والهدام، والبناء يتم بسط روح الحديث وتصحيح المفاهيم بأدب، أما الهدام فهو تجريح للمشاعر والقلوب.
- الصياح في الوالدين: لا يغتفر، فلا يوجد سبب ولا مبرر للاعتداء على الوالدين بالصياح.
- الغضب: هو شهوة على العاقل كبت جموحها حتى لا ترمي به إلى التهلكة، وهناك ثلاث مراتب للغضب، الأولى هي الغضب الذي يدرك فيه الشخص ما يقول ويفعل، والثانية هي الغضب الذي يندم فيه الشخص على ما فعله، والثالثة هي الغضب الذي يغيب فيه العقل، وقد يكون مغيبًا لأسباب لا إرادية أو لأسباب صحية، ويعفى عنه في هذه الحالات.
نماذج يضرب بها المثل في بر الوالدين
أولى مواقف ونماذج بر الوالدين:
موقف يحيى بن زكريا عليهما السلام من والديه:
قال تعالى: “وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا” [مريم: 14].
إنه موقف البرّ والإحسان ومجانبة العقوق والعصيان.
قال ابن كثير: لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبرّه بهما، ومجانبته عقوقهما قولًا أو فعلًا، أمرًا أو نهيًا، ولهذا قال: “وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا” ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: “وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا”، أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.
ثاني مواقف بر الوالدين
موقف عيسى عليه السلام من أمه عليها السلام:
قال تعالى: “وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا” [مريم: 32].
إن برّ عيسى عليه السلام بوالدته ذكره بعد الزكاة، والاستمرار عليها، ثم جاء التنبيه على برّه بوالدته، وهذا من المقارنة بين طاعة الربّ سبحانه، وطاعة الوالدين.
قال ابن كثير: وقوله: “وَبَرًّا بِوَالِدَتِي”، أي: وأمرني ببرّ والدتي، ذكره بعد طاعة ربّه، لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرّن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين.
وقوله: “وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا”، أي: ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبرّ والدتي، فأشقاني بذلك.
ثالث مواقف بر الوالدين
موقف إسماعيل من أبيه إبراهيم عليهما السلام:
قال الله تعالى: “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: يَا أَبَتِ، افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”.
“فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ صَلَاةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ”. الصافات
بين القرآن كيفية التعامل مع الوالدين
فبين القرآن أن الذرية أو الأبناء على نوعين:
الأول: ذرية طائعة بارة بالوالدين.
الثاني: ذرية شقية وعاقة للوالدين.
أما الصنف الأول فيتمثل في مواقف الأنبياء كنوح وإبراهيم ويحيى وعيسى وإسماعيل ويوسف عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- من دعاء لهما ولين جانب في القول لهما واعتراف بالجميل لهما، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما.
أما الصنف الثاني: فيتمثل في نوعين:
ا- موقف ابن نوح، وهروبه من أبيه وعدم السماع والطاعة لأبيه، فكان من المغرقين.
٢- وأما الموقف الثاني فيتمثل في كل من عق والديه وكذب بالحق، وعبر عنه القرآن في قوله تعالى:
{والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين} الأحقاف: ١٧-١٨.
اقرأ أيضا: الابتلاء محنة أم منحة؟
[…] اقرأ أيضا: بر الوالدين مفتاح النجاح في الدنيا والاخرة […]